خطة بايدن لغزة- إنقاذ إسرائيل من نفسها ومعضلة نتنياهو الداخلية

في خواتيم شهر مايو/أيار، كشف الرئيس الأمريكي جو بايدن عن المقترح الإسرائيلي لوقف إطلاق النار في قطاع غزة. بدايةً، يجب التمعن في المشهد السياسي الذي يقف وراء هذا الطرح الإسرائيلي الذي أُعلن عنه بلسان أمريكي. يتبادر إلى الذهن، بحسب المنطق السياسي، سؤال جوهري: لماذا يعرض بايدن رؤية إسرائيلية، بدلًا من أن يتقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بنفسه ويقدم هذا التصور للعالم، باعتباره تصورًا إسرائيليًا خالصًا، خاصةً وأنه، على ما يبدو، قد تبلور في أروقة مجلس الحرب الإسرائيلي بمشاركة فعالة من الجيش؟ وكيف سيتعامل نتنياهو مع هذا المقترح المفاجئ؟
هناك عدة تفسيرات محتملة لهذا الأمر:
- التفسير الأول: أن بايدن قدّم المقترح دون تنسيق مسبق مع إسرائيل، بهدف ممارسة ضغط مباشر على نتنياهو لحسم موقفه بشأن هذا التصور، الذي يبدو أنه ظل حبيسًا لمداولات مجلس الحرب، مع تردد واضح من نتنياهو في طرحه علنًا، أو حتى على أعضاء حكومته. ولهذا السبب، تجنب بايدن في خطابه الخوض في تفاصيل المقترح، واكتفى بعرض الإطار العام له، وهو ما يستلزم استمرار المفاوضات المضنية بين حماس وإسرائيل عبر الوسطاء للاتفاق على التفاصيل الدقيقة. في هذا السياق، كان هدف بايدن هو تحريك هذا المسار المتعثر بعد تعطله في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على رفح، وكذلك التأثير في المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي المتأزم.
- أما التفسير الثاني: فيفترض أن الطرح الإسرائيلي قد عُرض بتنسيق كامل مع إسرائيل، ولكنه خضع لتعديلات أمريكية جوهرية تتعلق بالهدف النهائي للمقترح، وبالتحديد وقف الحرب بشكل دائم. هذا ما يفسر الرد الأولي الإيجابي من حركة حماس. ولهذا، بادر بايدن إلى طرحه دون الرجوع إلى إسرائيل، وعرضه على أنه مقترح إسرائيلي، ولكن في مقابل ترحيب حماس الأولي بالمقترح، سارع نتنياهو للتأكيد على أن إسرائيل لن توقف الحرب قبل تحقيق جميع أهدافها المزعومة، والمتمثلة في القضاء التام على حركة حماس كسلطة وبنية عسكرية، واستعادة جميع المحتجزين الإسرائيليين.
إن طرح بايدن شخصيًا للمقترح الإسرائيلي، هو علامة واضحة على محاولة الولايات المتحدة إنقاذ إسرائيل من نفسها، حيث جاء ذلك في سياق استنفاد العمليات العسكرية لقدرتها على تحقيق الأهداف المعلنة، وهو الإدراك الذي ترسخ بشكل أعمق بعد مرور أسابيع على عملية رفح التي ادعت إسرائيل أنها ستكون المرحلة الحاسمة قبل تحقيق الانتصار "الوشيك"، كما كان نتنياهو يكرر، بالإضافة إلى التصعيد المحتمل على الجبهة الشمالية الملتهبة، والذي تدرك الولايات المتحدة جيدًا أنه وثيق الصلة بالحرب في قطاع غزة، وأن وقف الحرب سيفتح الباب أمام مسار دبلوماسي حقيقي لتسوية الأزمة المتفاقمة في الشمال.
والأهم من ذلك كله، أن الإدارة الأمريكية لديها قناعة راسخة بأن تحقيق أهداف الحرب المزعومة يتطلب مقاربة سياسية شاملة بعد استنفاد الخيارات العسكرية، ولكن نتنياهو يرفض حتى مجرد الحديث عن أي مقاربة سياسية، لما يعنيه ذلك من تبديد أحلام اليمين المتطرف الجامحة في الاستيطان المكثف في قطاع غزة، وفرض حكم عسكري دائم عليها.
وأخيرًا، فقد جاء الطرح الأمريكي في خضم عزلة دولية متزايدة لإسرائيل، بعد القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية، وقرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، والاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية، والكارثة الإنسانية المروعة التي خلفتها الحرب في قطاع غزة دون أن تحقق أهدافها المعلنة.
تحليل دقيق للتصريحات الإسرائيلية، وخاصة تصريحات نتنياهو المتناقضة، يكشف أن الأخير يراهن بشكل كبير على تنفيذ المرحلة الأولى من المقترح، دون تقديم أي تعهدات واضحة بوقف الحرب، حيث صرح بأن المقترح يحقق أهداف الحرب في القضاء على حركة حماس من جهة، ووقف العمليات العسكرية من جهة أخرى، فكيف يمكن تحقيق هذين الهدفين المتناقضين في آن واحد، حتى لو افترضنا جدلًا أن حماس وافقت على المقترح؟
التفسير الوحيد المنطقي هو أنه كان يراهن على المضي قدمًا في تنفيذ المرحلة الأولى، ثم إفشال المراحل الأخرى، عبر وضع شروط تعجيزية يستحيل على حركة حماس قبولها، ليعود بعد ذلك إلى استئناف الحرب بكل قوة. وهذا يفسر موقف حماس الرافض لأي مقترح لا يتضمن تعهدًا دوليًا وإسرائيليًا واضحًا بوقف الحرب بشكل دائم.
لقد أدخل المقترح – على الرغم من تقديمه على أنه مقترح إسرائيلي – المشهد السياسي الداخلي في حالة من الحراك الشديد، ووضع نتنياهو في مأزق سياسي داخلي حقيقي؛ فمن جهة، فإن مصادقة إسرائيل الرسمية على المقترح – بغض النظر عن موقف حماس النهائي – ستؤدي حتمًا إلى خروج أحزاب اليمين المتطرف المتشدد (حزب الصهيونية الدينية، وحزب عظمة يهودية) من الحكومة الائتلافية.
لكن خروج هذين الحزبين لن يؤدي بالضرورة إلى إسقاط الحكومة؛ لأن المصادقة على المقترح ستضمن بقاء حزب المعسكر الرسمي برئاسة بيني غانتس في الحكومة، وتراجعه عن المهلة التي كان قد أعطاها لنتنياهو حتى 8 يونيو/حزيران للانسحاب منها، وكذلك فإنه مع تأييد الأحزاب الدينية الحريدية (يهدوت هتوراه وحركة شاس) للمقترح، ستضمن حكومة نتنياهو البقاء في السلطة بـ 62 مقعدًا، وذلك فضلًا عن الغطاء البرلماني الذي قد يوفره حزب "يوجد مستقبل" المعارض للحكومة في حالة المصادقة على المقترح.
ورغم ذلك، يدرك نتنياهو تمام الإدراك أن المصادقة على المقترح ستفقده الدعم القوي من القاعدة الشعبية الصلبة لليمين المتطرف، كما أن خروج أحزاب اليمين من الحكومة سيؤدي في نهاية المطاف إلى تقديم موعد الانتخابات العامة؛ لأن الغطاء السياسي الذي سيحققه غانتس والمعارضة لنتنياهو لن يستمر طويلًا، وسيكون مرتبطًا بمدة تنفيذ الصفقة أو المقترح فحسب.
في المقابل، إذا فشل المقترح الحالي، فسيكون خروج غانتس من الحكومة أمرًا لا مفر منه، ولكن ذلك لن يؤثر بشكل كبير على بقاء حكومة نتنياهو الأصلية (65 عضوًا)، لكن شرعيته في اتخاذ القرارات العسكرية المصيرية ستتآكل بشكل ملحوظ، وسوف تزداد حدة الاحتجاجات الشعبية. لكن غانتس فوّت فرصة ذهبية لإحداث تغيير جوهري في المشهد السياسي، فتأخره المفرط عن الخروج من الحكومة، ساهم بشكل كبير في تثبيتها، وربما ينجح نتنياهو الآن في تقديمه في صورة الشخص الهارب من المعركة في لحظة حرجة، خاصةً وأن موعد خروجه المحتمل يتزامن مع التصعيد المتوقع على الجبهة الشمالية.
من الواضح أن نتنياهو حاول جاهدًا بعد عرض بايدن لمقترحه أن يُفشل الصفقة من خلال التأكيد المستمر على أن إسرائيل ستواصل عملياتها العسكرية المكثفة، فكأنه بذلك يطرح مقترحًا رسميًا للحل، وفي الوقت نفسه يعرض شروطًا تجعل تنفيذه مستحيلًا، ليخرج في النهاية بخطاب دعائي популистский يتهم الطرف الآخر بإفشال المفاوضات.
لكن هذا الأسلوب المخادع لم يعد ينطلي على الكثير من الشرائح الاجتماعية الإسرائيلية التي تدعم المقترح الأمريكي، فالشعار الذي رفعته مظاهرة يوم السبت في تل أبيب كان يعبّر بوضوح عن هذا الواقع، "أنقذهم من نتنياهو يا بايدن"، أي أنقذ المحتجزين الإسرائيليين من قبضة نتنياهو الذي يعطل كل جهد ممكن للتوصل إلى صفقة تبادل، بما في ذلك المقترح الحالي بالطبع.
يراهن نتنياهو على تحسن شعبيته المتزايدة في الأشهر الأخيرة، وتقليص الفجوة بينه وبين غانتس حول الأحقية بتولي منصب رئاسة الحكومة، وتراجع شعبية حزب غانتس في استطلاعات الرأي العام منذ شهرين من 40 مقعدًا إلى 28 مقعدًا فقط. فالمجتمع الإسرائيلي – أو على الأقل قطاعات واسعة منه – بدأ يرى في نتنياهو رجل المرحلة بسبب النزعة العسكرية الانتقامية التي لا تزال متجذرة في وعي الإسرائيليين.
ومن الملاحظ هنا أن الصراع الانتخابي محتدم بشدة في صفوف المعارضين لنتنياهو، بينما يسود الهدوء النسبي داخل المعسكر المؤيد له، وهو ما يعطي مساحة سياسية واسعة لنتنياهو للمناورة وإدارة المعركة ببراعة، وتهميش دور غانتس في القرارات المتعلقة بالحرب ومستقبلها السياسي.
ليس من المستبعد على الإطلاق أن يهرب نتنياهو من مأزق تعطيل الصفقة الحالية من خلال تصعيد الأوضاع على الجبهة الشمالية المتوترة، على الرغم من أن الثمن الذي قد تدفعه إسرائيل سيكون باهظًا للغاية، وربما يسهم التصعيد العسكري على الجبهة الشمالية في تحييد النقاش الداخلي الإسرائيلي المحتدم حول المقترح، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تأمل أن يساهم المقترح في حلحلة الأزمة المستعصية على تلك الجبهة الشمالية.
